إيطالية البلد المبهر الأنيق





حديثي هذا يشتمل على وصف الأثر الذي تركته في نفسي الشهورالتي قضيتها في إيطاليا ، وعلى تحليل ونقد بعض الكُتب الجديدة من شئون إيطاليا وأحوالها اليوم. وإني إن شئت أن أجمع الوصف كله في جملة واحدة فإني أقول: إن أقوى ما تركته إيطاليا في نفسي حيوية ماضيها في حاضرها، وليس معنى ذلك أن ذلك الماضي عبارة عن معنًى مجرد نستطيع أن نغفله وأن نطَّلع عليه وأن نتخذ منه وسيلة للفخر أو للحط من قدره، بل هو شيء حي يحياه الناس دون أن يحسوا بأنه أمر خارجي عنهم. وقد أدركت الآن السر فيما ذهب إليه الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروشيه في قوله المشهور: إن كل تاريخ تاريخ معاصر، أدركت أن إيطاليته تفسر لنا جوهر مذهبه.
 وليس معنى قولي عن حيوية ماضي إيطاليا أن إيطاليا لم يجرِ فيها وعليها ما جرى على سائر أمم أوروبا: الهجرات القديمة، المدنيات الأولى العجيبة الرائعة كالفن الروماني الضخم، الوحدة النصرانية، غزوات القبائل المتبربرة الألمانية، مدنية العصور الوسطى، حركة الاستعمار الأوروبي وانتشار النفوذ الأوروبي قديمًا وحديثًا، النهضة الأوروبية والإصلاح الديني، الانقلاب الاقتصادي، الحركات القومية … وهكذا. أجل، لقد ساهمت إيطاليا في هذه الحركات كلها وأثرت فيها وتأثرت بها، كما هو الحال في غيرها، ولكن يلوح لي أنها لم تستطع أن تمحو الطابع الإيطالي الأصلي. ويتمثل هذا الطابع الإيطالي مع حقيقته في عصرين من عصور التاريخ الإيطالي؛ الأول: السابق للإمبراطورية الرومانية، والثاني: التالي لانحلال تلك الإمبراطورية؛ أي في العصور الوسطى. والأول هو عصر الجماعات الإيطالية المختلفة التي ظهرت عليها روما. ولم تتأثر الإمبراطورية الرومانية تأثر أهل إسبانيا أو أهل فرنسا أو أهل بريطانيا بها، والسبب ظاهر؛ فالإيطاليون هم بناة تلك الإمبراطورية وإن كانت الإمبراطورية لا تمثل خير ما فيهم. أما العصر الثاني فهو عصر المدن والإمارات الإيطالية، وهو أزهى عصور التاريخ الإيطالي.


ولم تعصف بالحياة الإيطالية حروب الإصلاح الديني، أو الانقلاب الصناعي الكبير، أو حروب التنافس الاستعماري والتجاري، أو الثورات السياسية والاجتماعية المبتدئة بالقرن الثالث عشر. حقيقةً، إن إيطاليا عرفت شيئًا من كل هذا واتصلت بكل هذا، ولكن على غير ما عرفت ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا؛ فبقيت للأقاليم المختلفة وجماعاتها مميزاتها حية قوية، وبقي الفلاح الصغير، وبقي الشعب متمسكًا بعاداته وإيمانه، متعلقًا بأعياده وقديسيه غير مستخفٍ ولا مستخذٍ، بل تسري من ملاهيه وأساليبه وتعبيراته أشياء للمسرح وللأدب المكشوف، وبقي العمل اليدوي في إيطاليا، لا يحط من قدر، ولم يهبط من مستوًى، وهو إنه كان فخر إيطاليا.
وإيطاليا اليوم أمة متحدة، نظامها جمهوري برلماني، ومظاهر الحياة السياسية هي المظاهر الحديثة المعروفة في كل مكان، ومسألتها هي المسألة السائدة في كل مكان: التوفيق بين الجماعة والفرد، الحرب والنظام؛ إلا أن كل ذلك يتأثر في إيطاليا — كما أكدت — بالطابع الذي انطبعت به تلك الأمة التاريخية.
ومن أجل ذلك، فإن أقوى البحوث في أحوال إيطاليا المعاصرة تلك البحوث التي تقترب من الحاضر عن طريق الماضي، والتي لا تهمل في بحث الحركات السياسية وغيرها خُلق الفرد وعقليته ونفسيته. وأستطيع أن أقدم لمن يهمهم الأمر كتابين، أحدهما صغير وضعته المؤرخة الإنجليزية إليزابيث ويسكمان Elizabeth Wiskemann باسم «إيطاليا»، وهو كتاب في مجموعة اسمها «العالم اليوم»، وقد نُشر الكتاب في سنة ١٩٤٧م. وهو كتاب تحليل حاولت فيه المؤلفة أن تقول ما للإيطاليين وما عليهم، وتحدثت فيه حديثًا مجملًا عن بعض مظاهر العظمة الإيطالية وبخاصة في الفنون. ثم تناولت غير مظاهر الحياة الإيطالية في القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة فيما بين إتمام اتحاد إيطاليا في منتصف ذلك القرن وقيام الحرب العالمية الأولى، للتحدث عن مشكلة الهجرة من إيطاليا والحركة الاستعمارية في أفريقيا. ثم تكلمت عن تلك الحرب وكيف ترتب عليها شيء من الاضطراب الفكري والاقتصادي مما هيأ الجو لمحاولة موسوليني تثبيت دكتاتوريته، وعقدت لتلك الدكتاتورية فصلًا معتدلًا يستحق من القارئ المصري كل عناية؛ ذلك أن جيلنا الحاضر في مصر لا يدرك في مجموعه إيطاليا إلا على عهد الدكتاتورية، ولا يزال من زوار إيطاليا الأجانب من يتحدثون عما أحدثته تلك الدكتاتورية لراحتهم في السفر والإقامة؛ وهذا كله وَهْمٌ في وَهْمٍ ينبغي الإقلاع عنه، وحقيقتها طغيان وعتو وفساد في الأرض. ومؤلفة الكتاب حجة في تاريخ السياسة الخارجية التي اتبعها موسوليني، وتعرف الشيءَ الكثير من خفايا العلاقات بينه وبين هتلر ونشأة ما عرفناه باسم «المحور». والفصول الأخيرة من الكتاب تشرح الحرب العالمية الثانية شرحًا طيبًا، وتتبين بوجه خاص حركة المقاومة الإيطالية لتحرير إيطاليا من السيطرة الألمانية ونشأة الموقف الداخلي الحالي.

أما الكتاب الثاني فقد وضعه الكونت كارلو سفورزا وزير خارجية إيطاليا الحالي عن إيطاليا المعاصرة وأحوالها العقلية والمعنوية. نُشر هذا الكتاب في سنة ١٩٤٦م لأول مرة ولكن مادته تكونت قبل ذلك، تكونت في المنفى، وهي عبارة عن دروس المؤلف ومقالاته عندما عمل أستاذًا في الجامعات الأمريكية يحاول أن يشرح لمستمعيه غير الإيطاليين حقيقة وطنه.
وينتمي المؤلف لأسرة نبيلة من أسرات الشمال ولكنها غير أسرة سفورزا Sforza المشهورة في تاريخ ميلان في العصور الوسطى، وعمل في الحياة النيابية وفي ميدان السياسة الخارجية قبل الحرب العالمية الأولى، واتصل بهما اتصالًا وثيقًا وخصوصًا بالسياسي الإيطالي المشهور جيوليتي؛ فمعلوماته من تلك الحقبة الممتدة من العصر التالي لإتمام الوحدة وافية غزيرة دقيقة، لا بالنسبة لإيطاليا فحسب ولكن بالنسبة للعلاقات الخارجية الدولية في الشرق والغرب.
ثم كانت الحركة الدكتاتورية، وقد قاومها أشد مقاومة، ولكنه اضطر للارتحال من بلاده فكرس جهوده في أوروبا وأمريكا لخدمة أمته بكل ما يستطيع، والكتاب الذي نقدمه لحضرات المستمعين ثمرة من ثمرات تلك الجهود.
والقسم الأول يشتمل على «الأصول» وهي في نظره: «النهضة وماكيافللي وفيكو»، وتحدث في هذا القسم عن أثر الثورة الدينية ونابليون في الحياة الإيطالية، كما أنه لم يهمل الإشارة للحركة الأدبية والموسيقية. أما القسم الثاني فهو دراسة لحركة الوحدة. ثم تحدَّث في الأقسام: الثالث والرابع والخامس عن الحياة السياسية في إيطاليا المتحدة وعن الحركات العقلية فيها وعن الحركات الاجتماعية حديثًا مستفيضًا شاملًا، يمتاز بدقة تحليله للشاعر كاردوتش والناقد دي سانتيني والفيلسوف بنديتو كروشيه. وفي كلامه عن الحياة السياسية والاجتماعية يحاول سفورزا أن يبرئ السياسي جيوليتي مما وصمه به المؤرخون من كونه المسئول الأول عن فساد الحياة البرلمانية بمناوراته ومساوماته المشهورة. وأعتقد أن المؤلف قد حقق لجيوليتي قدرًا من البراءة، وينبغي أن يكون لشهادته في حق جيوليتي قدرها؛ فقد خبر الرجل عن قرب واتصل به اتصالًا وثيقًا. يلي ذلك القسم السادس من الكتاب وموضوعه الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨م، تحدَّث فيه عن الأسباب التي من أجلها دخلت إيطاليا في صف الدول الغربية، وعن معاهدة لندن السرية وغيرها من الاتفاقات التي عقدتها الدول أثناء الحرب. ثم تكلم عن سير الحرب وما مُنيت به إيطاليا أولًا من هزيمة وخيبة، ثم من معاهدات الصلح التي خُتمت بها الحرب. ومن أهم فصول هذا القسم الفصل الذي عقده المؤلف لمحاولة الدول فرض تسوية سيفر على تركيا، وقيام مصطفى كمال والشعب التركي بهدم تلك التسوية وإنشاء تركيا الحديثة، والفصل المهم منذ نيط بسفورزا عمل سياسي في تركيا وعرف كمال معرفة وثيقة.
أما القسمان السابع والثامن فقد خصصهما المؤلف لإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الدكتاتورية، وإنا نعرف أن المؤلف كان من ألد خصومها. ومما قاله عنها أن رق الفاشية وبريقها ليسا من إنشاء موسوليني في شيء بل هما من صنع الشاعر المريض دانونزيو، وأن موسوليني لم يبتدع شيئًا بل كان يستولي ويجمع من هنا ومن هناك، بل إن برنامج الدكتاتورية نفسه لم يوضع إلا بعد نجاح موسوليني في الاستيلاء على أزمَّة الحكم، وأن الذي كسا البرنامج ثوبًا فلسفيًّا أو نظريًّا كان الفيلسوف المعروف جنتيلي، وأن الحركة كانت أضعف شأنًا وأقل أثرًا مما توهمه الناس خارج إيطاليا، وأنها تقوم في الواقع — ككل الدكتاتوريات — على استغلال أسوأ ما في الطبائع الإنسانية واستخدام أحط عناصر المجتمع.


لقد انتهت تلك الدكتاتورية بما فيها، واستأنفت الأمة الإيطالية حياتها الطبيعية التقليدية فاجتمع في أرضها وفي أجمل مدنها «فلورنسة» المؤتمر الخامس لهيئة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، واختلط الموفدون لذلك المؤتمر من قِبل ما يقرب من ستين أمة بأعلام الفكر والفن في إيطاليا؛ فكان ذلك إيذانًا بعودة الاتصال بين إيطاليا والجماعة البشرية. وتم الاجتماع في سنة مقدسة تتجلى فيها تلك الحيوية التاريخية المستترة، ويظهر فيها الشعب الإيطالي متمسكًا بإيمانه وتدينه، وبينما تطوب الكنيسة (على حد الاصطلاح الديني) أميرة من بيت الملك الفرنسي فإنها أيضًا تطوب فتاة فلاحة إيطالية من أعماق الريف الإيطالي.
وبعد، أفلا نرى في ذلك اجتماع الماضي والحاضر في نتاج حيٍّ قوي؟ إن لنا في المشاهد الإيطالية الحافلة متعة الجسم والعقل معًا، وإن لنا في تلك الأمة القوية بفلاحيها وعمالها عونًا، وإن لنا ولها في حصتنا من العالم إرثًا وشركة في دفع العدوان وجلب المنافع.

تسعدنا مشاركاتكم وتعليقاتكم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن فرنسا

مقدار تكلفة حساباتك التي تم الاستيلاء عليها على الويب المظلم

براهين على أن الأرض مسطحة